وهذه الأمور من أظهر ومن أعظم مزايا الإسلام، حتى إن الرجل عندما كان يسأل عما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم يذكر من جملة ما يأمر به صلة الرحم والصدق والعفاف ونحو ذلك، كما سأل أبو ذر رضي الله تعالى عنه أخاه، وكذلك سؤال النجاشي رضي الله عنه جعفراً ، وكذلك سؤال هرقل أبا سفيان .
فمن أعظم مزايا هذا الدين أنه يدعو إلى توحيد الله وإلى صلة الرحم والعفاف والصدق والأمانة، فهذه المزايا الأخلاقية تتفق العقول كلها عليها، ولا يمكن لأي أمة من الأمم أن تتغاضى عنها أو أن تتجاهلها، ولا يمكن لحكيم أو عاقل في هذا الوجود إلا أن يجعلها من مقومات الحياة، فلا بد من صلة الرحم ومن الصدق ومن العفاف.
فهذه الأمور -كما ذكر الفضيل رحمه الله تعالى- داخلة في حقيقة الإيمان، وهي من أعظم وأظهر ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وهي أساسيات أخلاقية لا تقوم المجتمعات إلا بها.
وكذلك: النصيحة لجميع المسلمين، لحديث: ( الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ).
فهي للمسلمين عامة، ويتعين ذلك في حق الولاة وكبار القوم، كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه؛ لأن جريراً كان سيداً في قومه، فلما بايع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )، وفي حقه تأكد في ذاته؛ لأن العلماء والأمراء والمسئولين في قبائلهم أو في مجتمعاتهم لابد من أن ينصحوا لكل من ولاهم الله تعالى أمرهم، فإن كانوا غاشين فقد تحقق فيهم الوعيد، نسأل الله العفو والعافية.
وكذلك الرحمة للناس عامة، وهذا هو الفرق بين الرحمة والنصيحة، فالرحمة للناس عامة، نرحمهم جميعاً، حتى قتال الكفار الذي هو أشد أنواع الإيلام فهو لهم رحمة، فالمسلمون لو قاتلوا أمة من الأمم فإنما يقاتلونهم رحمة بهم في الحقيقة؛ لأنه لا يمكن أن يخرجوا وأن يتحرروا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبودية العباد إلى عبادة رب العباد الله وحده إلا بهذا الجهاد، فيقضى على ذوي الشوكة وعلى ذوي الطغيان الذين يقفون حائلاً وحاجزاً أمام هداية هؤلاء، فإذا قضي عليهم دخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً.
ولذا كان الجهاد من أعظم ما رحم الله به البلاد والعباد، فإن الله تعالى لما أخرج وابتعث هذه الجيوش التي خرجت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الفتوحات فوصلت أطراف الدنيا شرقاً وغرباً حرر الله بهم العباد، وصحيح أنه ما من أمة إلا وفقدت من أبنائها، ولا شك في ذلك، لكن ما نسبة هذه الخسارة إلى ما تحقق لها من الخير والهدى والإيمان والنور والحق؟!
وإن كانت القضية مجرد دماء؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تحارب أو تحارب وتراق منها دماء، لكن شتان بين أن تراق أقل نسبة من الدماء لتحقيق أعظم غاية في هذا الوجود، وبين أن تراق دماء الملايين من البشر من أجل أهداف وغايات حقيرة، كما حدث في الحربين العالميتين من نزوات شخصية وعنصرية وكان بسببها ما كان.
فهذا الدين رحمة للعالمين، وهذه كلمة عظيمة جداً من الفضيل رحمه الله، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107].
بل إن هذا الدين لا تقتصر رحمته على البشر، وإنما تشمل الحيوان، ففي كل ذات كبد رطبةٍ أجر كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وما حديث البغي التي غفر الله تعالى لها حين سقت كلباً بموقها عنا ببعيد.
فهذا الدين دين الرحمة قبل أن يأتي الغرب الذي يتبجح الآن بالرحمة وحقوق الإنسان، وقبل أن يعرفوا حق الإنسان في بلادهم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الناس حق الحيوان، بل في أشد أنواع إيلام الحيوان ما شرع لنا الإسلام إلا الرحمة، فقال: ( وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )، فهو سيذبحها، لكن هذا الذبح فيه رحمة.
وأما من قال: إذا كان الإسلام دين الرحمة فلا جهاد فيه ولا قوة، فهذا إن كان قاصداً فهو ضال مضل مفترٍ على الله الكذب، وإن كان مخدوعاً مغروراً -وما أكثر أمثاله في هذه الأيام- فيجب أن يعلم حقيقة الرحمة، فإن بعض الناس يظنون أن الرحمة أنك لا تقاتل، ولا تجاهد، ولا تؤلم عدواً أو حيواناً أو كائناً من كان!
بل كل ذلك رحمة، حتى الحدود عندما تقام في المجتمع فهي رحمة بالمجتمع كله، وربما كانت رحمة بذلك المقتول أو المرجوم؛ لأنه إذا عوقب بهذا فهو كفارة له في الدنيا، فهي رحمة عظيمة وإن كانت في الظاهر مؤلمة.